الإنسان ـ من حيث المبدأ ـ حر في تصرفاته.
ولكن هذه الحرية قد تصطدم بحاجز منيع هو عدم الإضرار بالغير، ومن هنا منشأ نظرية
التعسف في استعمال الحق.
ويترتب على ذلك أن الحرية في التصرف تتقيد
بحدود، وهذه الحدود قد تفرضها الأخلاق، وقد يفرضها القانون. وبمجرد تجاوز هذه
الحدود ـ سواء أكانت أخلاقية أم قانونية ـ فإن الشخص يتحمل تبعة ذلك، وهذه هي
المسؤولية
la responsabilité. ويتبين من ذلك أن المسؤولية إما أن تكون أدبية، أي أخلاقية، وإما
قانونية.
التمييز بين المسؤولية الأدبية والمسؤولية
القانونية
تترتب المسؤولية الأدبية حينما يخل الشخص
بالتزام تفرضه عليه القواعد الأخلاقية، ومثال ذلك الكذب، والضحك في مأتم.
أما المسؤولية القانونية فتترتب نتيجة
لإخلال الشخص بالتزام قانوني. ويستخلص من ذلك أن المسؤولية الأدبية تختلف عن
المسؤولية القانونية في النقاط الآتية:
1ـ تقوم المسؤولية الأدبية على عنصر ذاتي وهو
الضمير، وهي مسؤولية أمام الله أو أمام الضمير ذاته، ومن ثمّ فإن المسؤول فيها هو
خصم وحكم في الآن ذاته. في حين أن المسؤولية القانونية تقوم على عنصر موضوعي وهي
مسؤولية شخص أمام شخص آخر.
2ـ تعد المسؤولية الأدبية أعم من المسؤولية
القانونية وأوسع نطاقاً منها؛ وذلك لأنه لا يشترط فيها الإضرار بالغير. وبالمقابل
فإن المسؤولية القانونية لا تقوم إلا إذا كان هناك ضرر لحق بالغير الذي يمكن أن
يكون فرداً بذاته أو المجتمع بأكمله.
3ـ لا يمكن الإفلات من العقاب في المسؤولية
الأدبية، حتى لو خالف الإنسان قاعدة أخلاقية في الخفاء؛ وذلك لأنها تقوم على
الضمير، والفاعل فيها هو الخصم والحكم. في حين أنه يمكن الإفلات من العقاب في
المسؤولية القانونية في حال ما إذا خالف الشخص قاعدة في السر، وذلك لأن العقاب في
مثل هذه الحال تفرضه السلطة العامة، وإذا لم تعلم هذه السلطة بالمخالفة التي وقعت
لا يمكن لها أن تتدخل وتعاقب الفاعل
.
أنواع المسؤولية القانونية
تقسم المسؤولية القانونية إلى مسؤولية
مدنية ومسؤولية جزائية ومسؤولية إدارية.
أولاً ـ المسؤولية المدنية: وهي الجزاء
الذي يترتب على المدين نتيجة إخلاله بالتزامه الذي أدى إلى إلحاق الضرر بالدائن
وإفقار ذمته. وتعرف أيضاً بأنها: «الالتزام بتعويض الضرر الذي يسببه إخلال المدين
بالتزامه».
أ ـ خصائص المسؤولية المدنية: تمتاز
المسؤولية المدنية بالخصائص الآتية:
ـ تقوم المسؤولية المدنية على الضرر الذي
يلحق بالفرد، ومن ثم يكون الجزاء فيها تعويض المضرور عن ذلك الضرر. ويحق للمضرور
أن ينزل عن التعويض أو يتصالح عليه. وينتقل هذا التعويض إلى ورثة المضرور في حالة
وفاته.
ـ تخضع المسؤولية المدنية ـ من حيث المبدأ
ـ للقاعدة التي مفادها أن كل خطأ ألحق ضرراً بالغير يلزم مرتكبه التعويض. ومن ثم
فإن صور الخطأ المدني غير محصورة؛ مما يجعل مجال هذه المسؤولية واسعاً جداً.
ـ تقوم المسؤولية المدنية ـ في بعض الحالات
ـ دون المسؤولية الجزائية، كما هو عليه الحال فيما يتعلق بالضرر الناجم عن
المنافسة غير المشروعة.
ب ـ أنواع المسؤولية المدنية: تقسم
المسؤولية المدنية إلى مسؤولية عقدية ومسؤولية تقصيرية.
1ًـ المسؤولية العقدية: وهي التي تنشأ نتيجة
الإخلال بالتزام تعاقدي سابق، فمثلاً في عقد البيع المنجز إذا لم يقم المشتري بدفع
الثمن على الرغم من استلامه المبيع يعد مسؤولاً عن الأضرار التي تلحق بالبائع
نتيجة ذلك.
شروط تحقق المسؤولية العقدية: لا تتحقق
المسؤولية العقدية إلا إذا توافرت الشروط الآتية:
الشرط الأول: وجود عقد صحيح بين الدائن
والمدين: فإذا انتفى العقد، أو كان باطلاً أو قابلاً للإبطال وتقرر إبطاله، فلا
تقوم المسؤولية العقدية. وكذلك لا تتحقق المسؤولية العقدية إذا وقع خطأ بعد انتهاء
العقد.
الشرط الثاني: أن تقوم المسؤولية العقدية
بين الدائن والمدين طرفي العقد. أما إذا أثيرت المسؤولية من شخص أجنبي عن العقد،
فلا تعد هذه المسؤولية ـ من حيث المبدأ ـ عقدية. ويعد الخلف العام والخلف الخاص
للمتعاقد وكذلك المنتفع من العقد بمنزلة طرف في العقد. فإذا أثار أحد منهم مسؤولية
المتعاقد الآخر؛ فتكون هذه المسؤولية عقدية.
الشرط الثالث: أن يكون الضرر الذي لحق
بالدائن ناشئاً من عدم تنفيذ التزام ناتج من العقد.
أركان المسؤولية العقدية: تقوم المسؤولية
العقدية على الأركان الآتية:
الركن الأول: الخطأ العقدي: وهو عدم تنفيذ
التزام ناشئ من العقد، أو تنفيذه بشكل معيب، أو التأخر في تنفيذه. ويقوم الخطأ
سواء أكان عدم التنفيذ عمداً أم ناجماً عن إهمال.
وإثبات الخطأ العقدي يتوقف على تحديد طبيعة
التزام المدين. في الواقع، تقسم الالتزامات ـ عموماًـ من حيث هدفها إلى نوعين:
النوع الأول: التزام بتحقيق غاية أو التزام
بالسلامة، كالتزام شركة النقل تجاه المسافرين.
النوع الثاني: التزام ببذل عناية أو التزام
بوسيلة ، كالتزام المحامي بالدفاع عن مصالح موكله، وكذلك التزام الطبيب بمعالجة
مريضه.
ويكون تنفيذ الالتزام بغاية بتحقيق تلك
الغاية، فإذا لم تتحقق كان الملتزم واقعاً في خطأ عدم التنفيذ. أما في الالتزام
ببذل عناية، فيعد الملتزم أنه قد نفذ التزامه متى بذل في سبيل ذلك العناية التي
يبذلها الرجل المعتاد، سواء تحققت النتيجة المرجوة أم لم تتحقق، ما لم ينصّ
القانون أو الاتفاق على خلاف ذلك. ويترتب على ذلك أن إثبات عدم التنفيذ في
الالتزام بتحقيق غاية يتم بمجرد إثبات عدم تحقق الغاية، ومثال ذلك إذا أصيب
المسافر في أثناء السفر بضرر يعد الناقل مسؤولاً؛ وذلك لأن الغاية من التزامه لم
تتحقق؛ وهي وصول المسافر بالسلامة. وأما في الالتزام ببذل عناية، فعلى الدائن أن
يثبت أن المدين لم يبذل القدر الواجب من العناية، وبمعنى آخر أن يثبت الخطأ في
جانب المدين.
وللمدين الحق في أن يدفع المسؤولية عن نفسه
بإثبات أن عدم التنفيذ يرجع إلى سبب أجنبي، كالقوة القاهرة[ر].
الركن الثاني: الضرر: ويقع عبء إثبات الضرر
ـ من حيث المبدأـ على عاتق الدائن. ولكن إذا كان التعويض اتفاقياً (وهي حالة الشرط
الجزائي)، فبمجرد وقوع الخطأ، يعد الضرر مفترضاً. وعلى المدين في مثل هذه الحال أن
يثبت أنه لم يلحق بالدائن ضرراً. وكذلك الحال إذا كان الضرر ناتجاً من التأخر في
أداء مبلغ من النقود، حيث يكون الضرر هنا أيضاً مفترضاً، ولكنه لا يقبل إثبات
العكس، ومن ثم يستحق الدائن التعويض ـ وهو فائدة النقود ـ دون أن يكلف إثبات
الضرر. والضرر إما أن يكون مادياً؛ وهو ما فات الدائن من كسب وما لحقه من خسارة،
أو أن يكون أدبياً؛ وهو ما يؤذي الشخص في نواح معنوية كالعاطفة والكرامة والشرف.
ويشترط في الضرر أن يكون محققاً أي أكيداً ومباشراً ومتوقعاً وقت التعاقد. ولا
يسأل المدين في المسؤولية العقدية عن الضرر غير المتوقع إلا إذا كان ناشئاً من غش
أو من خطأ جسيم.
الركن الثالث: علاقة السببية بين الخطأ
والضرر: ومعنى ذلك أنه يجب أن يكون الخطأ العقدي الذي ارتكبه المدين هو السبب في
إلحاق الضرر بالدائن.
ويجب على الدائن إثبات هذه العلاقة. إلا
أنه متى أثبت الدائن الخطأ والضرر؛ تعد علاقة السببية بينهما مفترضة قانوناً. ولكن
هذا الافتراض يقبل إثبات العكس، ومن ثم يمكن للمدين أن يثبت أن الضرر لم ينشأ من
خطئه. وإنما نشأ من سبب أجنبي، ويترتب على ذلك دفع المسؤولية عنه.
2ًـ المسؤولية التقصيرية: وهي التي تنشأ نتيجة
الإخلال بالتزام قانوني عام يفرض عدم الإضرار بالغير.
أنواع المسؤولية التقصيرية: تتضمن
المسؤولية التقصيرية أنواعاً عدة، وهي:
ـ المسؤولية عن العمل الشخصي: وتعد القاعدة
العامة في المسؤولية التقصيرية، وتقوم على المبدأ الذي مفاده أن كل خطأ سبب ضرراً
للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض.
أركان المسؤولية عن العمل الشخصي: تقوم
المسؤولية عن العمل الشخصي على ثلاثة أركان، وهي:
الركن الأول: الخطأ: يقوم الخطأ في
المسؤولية التقصيرية على عنصرين، وهما:
العنصر المادي: وهو التعدي: الخطأ هو
انحراف في السلوك، وبالتالي فهو تعد. وهذا الانحراف إما أن يكون ناجماً عن عمد أو
عن إهمال. والتعدي الذي يقع بالعمد معياره ذاتي، حيث ينظر إلى نية الفاعل نفسه.
أما التعدي الذي يقع بالإهمال فمعياره موضوعي، حيث يقاس فيه سلوك الفاعل بسلوك شخص
مجرد هو الشخص العادي من الناس، وجد في الظروف الخارجية ذاتها، فإذا كان الفاعل لم
ينحرف في سلوكه عن المألوف من سلوك الشخص العادي، فلا يعدّ فعله تعدياً. وهذا هو
معيار الرجل المعتاد.
العنصر المعنوي: وهو الإدراك: مناط
المسؤولية هو الإدراك. فلا يكفي توافر التعدي؛ كي يقوم ركن الخطأ، وإنما لابدّ من
أن يقع التعدي من شخص مدرك لنتائج أعماله. ومن ثمّ يجب أن يكون المعتدي مميزاً.
ومن انعدم الإدراك والتمييز لديه لا يعد مسؤولاً إذا قام بفعل غير مشروع. وسنّ
التمييز في القانون السوري هي سبع سنوات في المسؤولية المدنية. ومن حيث المبدأ لا
يعد عديم التمييز مسؤولاً؛ إلا أنه يقر القانون مسؤوليته في حالات استثنائية؛ وذلك
إذا لم يتمكن المضرور من الحصول على التعويض من المكلف برقابة عديم التمييز.
وتنتفي صفة الخطأ عن العمل غير المشروع في
حالات معينة كالدفاع الشرعي، وحالة الضرورة.
الركن الثاني: الضرر: سبق الإشارة إلى
أنواع الضرر وشرائطه عند الكلام عن المسؤولية العقدية. ولكن يجب الإشارة هنا إلى
أن التعويض يشمل في المسؤولية التقصيرية الضرر المتوقع والضرر غير المتوقع.
الركن الثالث: علاقة السببية بين الخطأ
والضرر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق